احترام الكبير من منظور أخلاق الإسلام - اللقاء الثامن عشر

3 years ago
19

احترام الكبير من منظور أخلاق الإسلام - اللقاء الثامن عشر

الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيءٍ قائم به، وكل شيءٍ خاضع له، غِنى كل فقير، وقوة كل ضعيف، ومَفزع كل ملهوف، مَن تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره، ومن عاش فعليه رزقُه، ومن مات فإليه منقلبه، كل ملِكٍ غيره مملوك، وكل قويٍّ غيره ضعيف، وكل غنيٍّ غيره فقير.

يا ربّ حَمْدَاً ليس غيرُكَ يُحْمَدُ *** يَا مَنْ لَهُ كُلُّ الْخَلائِقِ تَصْمُدُ
أبوابُ كُل ملوكها قد أُوصِدَتْ *** ورأيتُ بابَكَ واسِعَاً لا يُوصَدُ

وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسولُه، أحسن النّاس خُلُقًا، وأكرمُهم خَلْقا، وأشرفهم نسباً، وأعظمهم جودا، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله الأخيارِ، وأصحابه الأبرار، والتابعين، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعـــــد: عبـــــاد الله، لقد خلق الله الإنسان، وجعل حياته تمر بثلاث مراحل: مَرْحَلَةِ الضَّعْـفِ، وَهِيَ مَرْحَلَةُ الطُّفُولَةِ وَالصِّغَرِ، وَفِيهَا يَبْدُو الإِنْسَانُ مُحْـتَاجًا إِلَى الرِّعَايَةِ وَالعِنَايَةِ، وَيَبْـذُلُ وَالِدَاهُ جُهُودًا كَبِيرَةً فِي مُسَاعَدَتِهِ وَالحِفَاظِ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ، وَهِيَ مَرْحَلَةُ القُوَّةِ وَالنَّشَاطِ وَالهِمَّـةِ، وَالعَمَلِ الكَادِحِ وَالإنتاج، وَفِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ يُعَدُّ الإِنْسَانُ سَاعِدَ الحَيَاةِ القَوِيَّ، وَالمَسْؤُولَ عَنْ تَقَدُّمِهَا أَوْ تَأَخُّرِهَا، إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مَرْحَلَةِ الضَّعْـفِ وَالشَّيْخُوخَةِ، وَفِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ تَتَرَاجَعُ قُوَّةُ الإِنْسَانِ، وَيَنْحَسِرُ عَطَاؤُهُ وَنَشَاطُهُ، وَتَتَوَقَّفُ الكَثِيرُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ، حَتَّى يَعُودَ مُحْـتَاجًا مَرَّةً أُخْرَى إِلَى المُسَاعَدَةِ وَالعَوْنِ، وَالعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ.

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ المَرَاحِلَ الثَّلاثَ، فقال -سبحانه-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم:54].

يقف الإنسان عند آخر هذه الحياة فينظر إليها وكأنها نسجٌ من الخيال، أو ضرب من الأحلام، يقف في آخر سِنِيِّ عمره وقد ضعف بدنه، ورق عظمه، فأصبحت آلامه متعددة: ضعُف البدن، وثقُل السمع، وتهاوت القوى، وتجعّد الجلد، وابيضَّ الشعر، يمشي بثلاث بدل اثنين، هكذا يكون حال الإنسان إذا تقدم به العمر، وهذه المرحلة من مراحل السن هي سنة الله في خلقه، ولم يسلم منها حتى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ألم تسمعوا عن زكريا -عليه السلام- ينادى ربه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) [مريم:4].

ولذلك؛ فإن من عظمة الإسلام أنه كما اهتمّ بالإنسان صغيراً ووجّه الأسرة والمجتمع إلى رعايته والاهتمام به، فإنه كذلك أمر بحسن رعاية واحترام الكبير في الإسلام مهما كان, أباً أو أماً، قريباً أم بعيداً، جاراً أم صديقاً، أخاً أم عماً أم خالاً, معروفاً أم غريباً، فقال -تعالى- عن الوالدين: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23-24]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منَّا من لم يوقِّر كبيرَنا، ويرحَم صغيرَنا" رواه أحمد وصححه ابن حبان.

عبـــــاد الله: لقد جعل الإسلام احترام الكبير نوعاً من أنواع إجلال الله وتعظيمه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ مِن إجلالِ الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ من المسلمين، وحامِلِ القرآن غيرِ الغالي فيه والجافي عنه، وذي السلطانِ المقسِط" صححه الألباني. وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا تحدث إليه اثنان بدأ بالأكبر سناً، ويقول: "كبِّر كبِّر" أخرجه البخاري. يبدأ الأكبرُ قبلَ أن يبدأَ الأصغر، هكذا أمر الإسلام.

فهذا رجل كبير السن -كما في حديث عبد الله بن بسر- يأتي للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ! فأخبِرْني بشيء أتشبث به. وفي رواية: ولا تُكْثِرْ. فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يزالُ لسانك رطباً من ذكر الله تعالى" رواه الترمذي وصححه الأرناؤوط.

عبـــــاد الله: فإذا كانت توجيهات هذا الدين نحو الكبار واحترامهم بهذا السمو، فأين هذه القيمة العظيمة في حياتنا؟ وأين حقوقهم في مجتمعاتنا وفي سلوكنا وتعاملاتنا؟ فكم من أبوين كبيرين عقهما وهجرهما وأساء معاملتهما أبناؤهما! وكم من شيخ أو إنسانٍ كبير تطاول عليه الصغار والشباب وسخروا من كلامه ورأيه، وتقدموا عليهم في المجالس والطعام والشراب! وكم نرى شبابًا تستطيلُ ألسنتهم على الكبار! وكم نرى شباباً لا يعرِف للكبير أيَّ قدرٍ ولا أيَّ مكانة! قد يلمِزه بجهله، وقد يلمزه بضَعف رأيه، وقد يلمزه بقِلّة علمه، وقد يلمِزه بعدَم نظافةِ ملبَسه.

كلُّ هذه الأمور -وغيرها- لا يجب أن تحمِلك على إهانةِ الكبير، بل قدِّر الكبير وعظِّمْه، وأظهر لأولادك عندما يزورون معك رحِمًا أنّك تقدِّم الأكبرَ فالأكبر، فهذا من إجلالك لله، ولن يخيب الله رجاءك يوم أن تأتيك هذه المرحلة من عمرك فتحتاج إلى من يساعدك ويعاملك المعاملة الحسنة، واعلم أن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.

Loading comments...